فصل: الخبر عن شأن الجهاد وظهور السلطان أبي يوسف على النصارى وقتل زعيمهم ذننة وما قارن ذلك:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» (نسخة منقحة)



.الخبر عن شأن الجهاد وظهور السلطان أبي يوسف على النصارى وقتل زعيمهم ذننة وما قارن ذلك:

كانت عدوة الأندلس منذ أول الفتح ثغرا للمسلمين فيه جهادهم ورباطهم ومدارج شهادتهم وسبيل سعادتهم وكانت مواطنهم فيه على مثل الرضف وبين الظفر والناب من أسود الكفر لتوقر أممهم جوارها وإحاطتهم بها من جميع جهاتها وحجز البحر بينهم وبين إخوانهم المسلمين وقد كان عمر بن عبد العزيز رأى أن يخرج المسلمين منها لانقطاعهم عن قومهم وأهل دينهم وبعدهم عن الصريخ وشاور في ذلك كبار التابعين وأشراف العرب فرأوه رأيا واعتزم عليه لولا ما عاقه من المنية وعلى ذلك فكان للإسلام فيه اعتزاز على من جاورهم من أهل الكفر بطول دولة العرب من قريش ومضر واليمن وكانت نهاية عزهم وسورة غلبهم أيام بني أمية بها الطائرة الذكر الباسطة جناحها على العدوتين منذ ثلاث مئات من السنين أو ما يقاربها حتى انتثر سلكها بعد المائة الرابعة من الهجرة وافترقت الجماعة طوائف وفشلت ريح المسلمين وراء البحر بفناء دولة العرب واعتز البربر بالمغرب واستفحل شأنهم وجاءت دولة المرابطين فجمعت ما كان مفترقا بالمغرب من كلمة الإسلام وتمسكوا بالسنة وتشوقوا إلى الجهاد واستدعاهم إخوانهم من وراء البحر للمدافعة عنهم فأجازوا إليهم وأبلوا في جهاد العدو أحسن البلاء وأوقعوا بالطاغية ابن أدفوش يوم الزلاقة وغيرها وفتحوا حصونا واسترجعوا أخرى واستنزلوا الثوار ملوك الطوائف وجمعوا الكلمة بالعدوتين وجاء على أثرهم الموحدون سالكين أحسن مذاهبهم فكان لهم في الجهاد آثار على الطاغية أيام منها يوم الأرك ليعقوب بن المنصور وغيره من الأيام حتى إذا فشلت ريح الموحدين وافترقت كلمتهم وتنازع الأمر سادة بني عبد المؤمن الأمراء بالأندلس وتحاربوا على الخلافة واستجاشوا بالطاغية وأمكنوه من كثير من حصون المسلمين طعمه على الاستظهار فخشي أهل الأندلس على أنفسهم وثاروا بالموحدين وأخرجوهم وتولى ذلك ابن هود بمرسية وشرق الأندلس وعم بدعوته سائر أقطارها وأقام الدعوة فيها للعباسيين وخاطبهم ببغداد كما ذكرناه في أخبارهم واستوفينا كلا بما وضعناه في مكانه ثم انحجز ابن هود على الغريبة لبعدها عنه وفقده للعصابة المتناولة لها وأنه لم تكن صنعته في الملك مستحكمة وتكالب الطاغية على الأندلس من كل جهة وكثر اختلاف المسلمين بينهم وشغل بنو عبد المؤمن بما دهمهم من المغرب من شأن بني مرين وزناتة فتلافى محمد بن يوسف بن الأحمر أمر الغربية وثار بحصنه أرجونة وكان شجاعا قدما ثبتا في الحروب فتلقف الكرة من يد ابن هود خلع الدعوة العباسية ودعا للأمير أبي ذكريا بن أبي حفص سنة تسع وعشرين وستمائة فلم يزل قي فتنة ابن هود يجاذبه الحبل ويقارعه على عمالات الأندلس واحدة بعد أخرى إلى أن هلك ابن هود سنة خمس وثلاثين وستمائة.
وتكالب العدو خلال ذلك على جزيرة الأندلس من كل جانب ووفر له ابن هود الجزية وبلغ بها أربعمائة ألف من الدنانير في كل سنة ونزل له على اثنتين من حصون المسلمين وخشي ابن الأحمر أن يستغلظ عليه بالطاغية فجنح هو إليه وتمسك بعروته ونفر في جملته إلى منازلة أشبيلية نكاية لأهلها ولما هلك الأمير أبو زكريا نبذ الدعوة الحفصية واستبد لنفسه وتسمى بأمير المسلمين ونازعه بالشرق أعقاب ابن هود وبني مردنيش ودعاه الأمر إلى النزول للطاغية من بلاد الفرنتيرة فنزل عليها بأسرها وكانت هذه المدة من سنة اثنتين وعشرين إلى سنة سبعين فترة ضاعت فيها ثغور المسلمين واستبيح حماهم والتهم العدو بلادهم وأموالهم نهبا في الحروب ووضيعة ومداراة في السلم واستولى طواغيت الكفر على أمصارها وقواعدها فملك ابن أدفوش قرطبة سنة ست وثلاثين وجيان سنة أربع وأربعين وأشبيلية سنة ست وأربعين.
وتملك قمط برشلونة مدينة بلنسية سنة سبع وثلاثين إلى ما بينهما من الحصون والمعاقل التي لا تعد ولا تحص وانقرض أمر الثوار بالشرق وتفرد ابن الأحمر بغرب الأندلس وضاق نطاقه على الممانعة دون البسائط الفيح من الفرنتيرة وما قاربها ورأى أن التمسك بها مع قلة العدد وضعف الشوكة مما يوهن أمره ويطمع فيه عدوه فعقد السلم مع الطاغية على النزول عنها أجمع ولجأ بالمسلمين إلى سيف البحر معتصمين بأوعاره من عدوهم واختار لنزله مدينة غرناطة وابتنى بها لسكناه حصن الحمراء حسبما شرحنا ذلك كله في مواضعه وفي أثناء هذا كله لم يزل صريخه ينادي بالمسلمين من وراء البحر والملأ من أهل الأندلس يفدون على أمير المسلمين أبي يوسف للإعانة ونصر الملة واستنقاذ الحرم والولدان من أنياب العدو فلا يجد مفزعا إلى ذلك بما كان فيه من مجاذبة الحبل مع الموحدين ثم مع يغمراسن ثم شغله بفتح بلاد المغرب وتدويخ أقطاره إلى أن هلك السلطان أبوعبد الله محمد بن يوسف ابن الأحمر المعروف بالشيخ وأبي دبوس لقبين كانا له على حين استكمال أمير المسلمين فتح المغرب وفراغه من شأن عدوه سنة إحدى وسبعين وستمائة على أن بني مرين كانوا يؤثرون الجهاد ويسمون إليه وفي نفوسهم جنوح إليه وصاغية.
ولما استوحش بنو إدريس بن عبد الحق وخرجوا سنة إحدى وستين وستمائة على السلطان يعقوب بن عبد الحق واسترضاهم واستصلحهم انتدب الكثير منهم للغزو وإجازة البحر لصريخ المسلمين بالأندلس واجتمع إليهم من مطوعة بني مرين عسكر ضخم من الغزاة ثلاثة آلاف أو يزيدون وعقد السلطان على ذلك العسكر لعامر بن إدريس فوصلوا إلى الأندلس فكان لهم فيها ذكر ونكاية في العدو وكان الشيخ ابن الأحمر عهد إلى ولده القائم بالأمر بعده محمد الشهير بالفقيه لانتحاله طلب العلم أيام أبيه وأوصاه أن يتمسك بعروة أمير المسلمين ويخطب نصره ويدرأ به ويقدمه عن نفسه وعن المسلمين تكالب الطاغية فبادر لذلك لحين مواراة أبيه وأوفد مشيخة الأندلس كافة عليه ولقيه وفدهم منصرفا من فتح سجلماسة خاتم الفتوح بالثغور المغربية وملاذ العز ومقاد الملك وتبادروا للإسلام وألقوا إليه كنه الخبر عن كلب العدو على المسلمين وثقل وطأته فحيا وفدهم ورؤسائهم وبادر لإجابة داعي الله واستئثار الجنة وكان أمير المسلمين منذ أول أمره مؤثرا أعمال الجهاد كلفا به مختارا له حتى أعطي الخيار سائر آماله حتى لقد كان اعتزم على الغزو إلى الأندلس أيام أخيه الأمير أبي يحيى وطلب إذنه في ذلك عندما ملكوا مكناسة سنة ثلاث وأربعين وستمائة فلم يأذن له وفصل إلى الغزو في حشمه وذويه ومن أطاعه من عشيرته وأوعز الأمير أبو يحبى لصاحب الأمر بسبتة لذلك العهد أبي على بن خلاص بأن يمنعه الإجازة ويقطع عنه أسبابها ولما انتهى إلى قصر الجواز ثنى عزمه عن ذلك الوالي يعقوب بن هرون الخبري ووعده بالجهاد أميرا مستنفرا للمسلمين ظاهرا على العدو فكان في نفسه من ذلك شغل وإليه صاغية.
فلما قدم عليه هذا الوفد نبهوا عزائمه وذكروا همته فأعمل في الاحتشاد وبعث في النفير ونهض من فاس شهر شوال من سنة ثلاث وسبعين وستمائة إلى فرضة المجاز من طنجة وجهز خمسة آلاف من قومه أزاح عللهم واستوفى أعطياتهم وعقد عليهم لابنه منديل وأعطاه الراية واستدعى من الغد صاحب سبتة في السفن لإجازتهم فوفاه بقصر الجواز عشرون من الأساطيل فأجاز العسكر ونزل بطريف وأراح ثلاثا ودخل دار الحرب وتوغل فيها وأجلب على ثغورها وبسائطها وامتلأت أيديهم من المغانم وأثخنوا بالقتل والأسر وتخريب العمران ونسف الآثار حتى نزل بساحة شريس فخام حاميتها عن اللقاء وانحجروا في البلد وقفل عنها إلى الجزيرة وقد امتلأت أيديهم من الأموال وحقائبهم من السبي وركائبهم من الكراع والسلاح.
ورأى أهل الأندلس قد ثاروا بعام العقاب حتى جاءت بعدها الطاعة الكبرى على أهل الكفر واتصل الخبر بأمير المسلمين فاعتزم على الغزو بنفسه وخشي على ثغور بلاده من عادية يغمراسن في الفتنة فبعث حافده تاشفين بن عبد الواحد في وفد من بني مرين لعقد السلم مع يغمراسن والرجوع للاتفاق والموادعة ووضع أوزار الحرب بين المسلمين للقيام بوظيفة الجهاد فأكرم موصله وموصل قومه وبادر إلى الإجابة والألفة وأوفد مشيخة بني عبد الواد على السلطان لعقد السلم وبعث معهم الرسل وأسنى الهدية وجمع الله كلمة الإسلام وعظم موقع هذا السلم من أمير المسلمين لما كان في نفسه من الصاغية إلى الجهاد وإيثاره مبرورات الأعمال وبث الصدقات يشكر الله على ما منحه من التفزغ لذلك ثم استنفر الكافة واحتشد القبائل والجموع ودعا المسلمين إلى الجهاد وخاطب في ذلك كافة أهل المغرب من زناتة والعرب والموحدين والمصامدة وصنهاجة وغمارة وأوربة ومكناسه وجميع قبائل البرابرة وأهل المغرب من المرتزقة والمطوعة وأهاب بهم وشرع في إجازة البحر فأجازه من فرضة طنجة لصفر من سنة أربع وسبعين وستمائة واحتل بسماحة طريف وكان لما استصرخه السلطان ابن الأحمر وأوفد عليه مشايخ الأندلس اشرط عليه النزول عن بعض الثغور بساحل الفرضة لاحتلال عساكره فتجافى له عن رندة وطريف ولما احتل بطنجة بادر إليه ابن هشام الثائر بالجزيرة الخضراء وأجاز البحر إليه ولقيه بظاهر طنجة فأدى له طاعته وأمكنه من قياد بلده وكان الرئيس أبو محمد بن أشقيلولة وأخوه أبو اسحق صهر السلطان ابن الأحمر تبعا له في أمره ومؤازرا له على شأنه كله وأبوهما أبو الحسن هو الذي تولى كبر الثورة على ابن هود ومداخلة أهل أشبيلية في الفتك بابن الباجي فلما استوت قدمه في ملكه وغلب الثوار على أمره فسد ما بينهما بعد أن كان ولي أبا محمد على مقاله وأبا اسحق على وادي آش فامتنع أبو محمد بن أشقيلولة بمالقة واستأثر بها وبغربيتها دونه ومع ذلك فكانوا على الصاغية فيئة ولحمة ولما أحس أبو محمد بإجازة السلطان يعقوب بن عبد الحق قدم إليه الوفد من أهل مالقة ببيعتهم وصريخهم وانحاش إلى جانب السلطان وولايته وأمحضه المخالصة والنصيحة فلما احتل السلطان بناحية طريف ملأت كتائبه ساحة الأرض ما بينهما وبين الجزيرة وتسابق السلطان ابن الأحمر وهو الفقيه أبو محمد ابن الشيخ أبي دبوس صاحب غرناطة والرئيس أبو محمد بن أشقيلولة صاحب مالقة والغربية وأخوه أبو اسحق صاحب وادي آش إلى لقاء السلطان وتناغوا في برور مقدمه والإذعان له ففاوضهما في أمور الجهاد وأرجعهما لحينه إلى بلديهما وانصرف ابن الأحمر مغاضبا لبعض النزعات أحفظته وأغذ السير إلى الفرنتيرة وعقد لولده الأمير أبي يعقوب على خمسة آلاف من عسكره وسرح كتائبه في البسائط وخلال المعاقل تنسف الزرع وتحطم الغروس وتخرب العمران وتنتهب الأموال وتكتسح السرح وتقتل المقاتلة وتسبي النساء والذرية حتى انتهى إلى المدور وتالسة وأبدة واقتحم حصن بلمة عنوة وأتى على سائر الحصون في طريقه فطمس معالمها واكتسح أموالها وقفل والأرض تموج سبيا إلى أن عرس بأستجة من تخوم دار الحرب وجاء النذير باتباع العدو وأثارهم لاستنقاذ أسراهم وارتجاع أموالهم وأن زعيم الروم وعظيمهم ذنته خرج في طلبهم بأمم بلاد النصرانية من المحتلم فما فوقه فقدم السلطان الغنائم بين يديه وسرح ألفا من الفرسان أمامها وسار يقتفيها حتى إذا طلت رايات العدو من ورائهم كان الزحف ورتب المصاف وحرض وذكر وراجعت زناتة بصائرها وعزائمها وتحركت هممها وأبلت في طاعة ربها والذب عن دينها وجاءت بما يعرف من بأسها وبلائها في مقاماتها ومواقفها ولم يكن إلا كلا ولا حتى هبت ريح النصر وظهر أمر الله وانكشفت جموع النصرانية وقتل الزعيم ذننه والكثير من جموع الكفر ومنح الله المسلمين أكتافهم واستمر القتل فيهم وأحصي القتلى في المعركة فكانوا ستة آلاف واستشهد من المسلمين ما يناهز الثلاثين أكرمهم الله بالشهادة وآثرهم بما عنده ونصر الله حزبه وأعز أولياءه ونصر دينه وبدا للعدو ما لم يحتسبه بمحاماة هذه العصابة عن الملة وقيامها بنصر الكلمة وبعث أمير المسلمين برأس الزعيم ذننه إلى ابن الأحمر فرده زعموا سرا إلى قومه بعد أن طيبه وأكرمه ولاية أخلصها لهم مداراة وانحرافا عن أمير المسلمين ظهرت شواهده عليه بعد حين كما نذكره وقفل أمير المسلمين من عزاته إلى الجزيرة منتصف ربيع من سنته فقسم في المجاهدين الغنائم وما نفلوه من أموال عدوهم وسباياهم وأسراهم وكراعهم بعد الاستئثار بالخمس لبيت المال على موجب الكتاب والسنة ليصرفه في مصارفه ويقال: كان مبلغ الغنائم في هذه الغزاة مائة ألف من البقر وأربعة وعشرين ألفا ومن الأسارى سبعة آلاف وثمان مائة وثلاثين ومن الكراع أربعة عشر ألفا وستمائة وأما الغنم فاتسعت عن الحصر كثرة حتى لقد زعموا بيعت الشاة في الجزيرة بدرهم واحد وكذلك السلاح وأقام أمير المسلمين بالجزيرة أياما ثم خرج لجمادى غازيا إلى أشبيلية فجاس خلالها وتقرى نواحيها وأقطارها وأثخن بالقتل والنهب في جهاتها وعمرنها وارتحل إلى شريش فأذاقها وبال العيث والاكتساح ورجع إلى الجزيرة لشهرين من غزاته ونظر في اختطاط مدينة بفرضة المجاز من العدوة لنزل عسكره منتبذا عن الرعية لما يلحقهم من ضرر العسكر وجفائهم وتحيز لها مكانا لصق الجزيرة فأوعز ببناء المدينة المشهورة بالبنية وجعل ذلك لنظر من يثق به من ذويه ثم أجاز البحر إلى المغرب في رجب من سنة أربع وسبعين وستمائة فكان مغيبه وراء البحر ستة أشهر واحتل بقصر مصمودة وأمر ببناء السور على بادس مرفأ الجواز ببلاد غمارة وتولى ذلك إبراهيم بن عيسى كبير بني وسناف بن محيو ثم رحل إلى فاس فدخلها في شعبان وصرف النظر إلى أحوال دولته واختطاط البلد الجديد لنزله ونزل حاشيته واستزال الثوار عليه بالمغربب على ما نذكره إن شاء الله تعالى.